(( ربيع وخريف ))

(( ربيع وخريف ))
طوى الشتاء صفحته من مسرح الحياه، وأطل الربيع لينشر أثوابه الوردية على الكون ، فأزهرت الأشجار ، وعادت لأوراقها الحياة ، وتفتحت الزهور ،وتلون الكون بألوان السعادة معلنا فرحته بقدوم الربيع .

أما بيتي فقد لبس السواد ، وأعلن الحزن والإكتئاب ، فقد اقتحمه الخريف ، وسقطت زهرة البيت التى كانت حياة البيت وربيعه في كل فصول السنة ، ولكن اليوم لأول مرة يعرف الخريف طريقه لأسرتي ، وجاء ليسلب الوردة الزاهية ويقطفها من البستان .

فقد ماتت أمي ، ماتت زهرة البيت ، وطغى الحزن الجبار على بيتنا السعيد ، وها هو ثاني يوم يمر علىّ بعد وفاتها ، وأنا هناك أجلس على فراشي متقوقعة وحدي ، والدموع تتساقط على وجهي ، لا أعى ماذا يحدث ، فقد أحسست ولا ريب أنه قد ضاع الوجود ، لأن الوجود كان أمي .

ثم قمت من فراشي في بطء وخطوات ثقيلة ، وفتحت النافذة فشعرت بآشعة الشمس الذهبية تلفح وجهي ، فنظرت لقرص الشمس المحلق عالياً بالسماء فرن صوت الأسى في أعماقى ، فقد أشرقت الشمس لتنير الكون ، ولكن هل تستطيع إنارة ظلمات إحساسي بعد اليوم ؟ .

فقد أحسست بداخلي أن حياتي منذ الآن غروب وموت الشمس للأبد فأصبح قلبي كئيباً ، وشعرت بظلام دامس يحيط بالبيت ، فتنهدت وأشاحت بوجهي في نفور ، وعدت لأجلس في فراشي ، وأدفن رأسي بين كفىّ وأبكي ، وأبكي ، وأتمزق ، ومر الوقت لا أدري كم مر من الوقت ، حتى أحسست بيد ضعيفة تربت على ظهري بحنان ، فنظرت للشخص فوجدته أبي ، ينحني علىّ ويضمني لحضنه في صمت مؤلم .

فقلت بصوت متهدج يقطعه البكاء تقطيعاً :

ــ ماتت ياأبي ؟ لن آراها ثانياً ياأبي ؟ لن أضحك معها وأسامرها ثانياً ياأبي ؟

فقال وهو يمسك بذارعىّ ويحاول أن يضمني :

ــ إنها الحياة يا ابنتي .

فأبعدت يده عني وقمت من مكاني غاضبة وأنا أقول ثائرة :
ــ الحياة ؟ آى حياة ؟ الحياة التي تعطينا لتسلبنا ؟ الحياة التي تعطينا وتحرمنا ؟ الحياة التي تعطينا لتتفضل علينا ؟

فقام أبي واحتضني وهو يقول :

ــ إنه القدر ياعزيزتي ، إرادة الله فوق كل شئ .

فنظرت له والدموع تتساقط على وجهي وتغسله ولم أنطق ، فقد اختنقت الكلمات في حنجرتي .

فمسح أبي على جبهتي وقبلها وهو يقول :

ــ نامي ياعزيزتي الآن لترتاح أعصابك .

فقلت في ضيق ويأس :

ــ أنام ؟ كيف أنام ؟ إني أتسأل ياأبي ، إني أتسأل إذا لم تبق أمي هنا بجواري ، فلماذا أبقى أنا هنا ؟

ــ استغفري الله ياعزيزتي ، ليطمئن قلبك ، وارضي بما كتبه الله لنا ، واعلمى ياعزيزتي جيداً أنها ارادة الله ، اعلمى جيداً أن الله يخلقنا فنجد في حياتنا إناس نحبهم ونتعلق بهم ، أو يخلقنا ثم يخلق في حياتنا إناس نحبهم كذلك ، ثم يسترد خلقه منا متى يشاء ، يسترد أمانته التى وضعها في الأرض .

ــ ولكني لا استطيع تحمل هذا ، ولا أطيقه ، لا استطيع حتي تخيله .

ــ اصبري ، اصبري على قضاء الله ، ثم من قال لكِ أنها ماتت ؟، إنها لم تمت ، إنها تحيا بداخلك ، تحيا بكيانك ، تملأ فراغات قلبك بالحب .

ــ قلبي ؟ إنها كانت لي بمثابة نبض قلبي ، والآن توقفت دقاته فمت أنا الأخرى وأنا مازلت على قيد الحياة .

ــ أتعلمين اليوم ياابنتي سأنام بجوارك ، أضمك بأحضاني ، ألاتشتاقين لحضني ؟ فأنا أشتاق ، ألا تلبي ندائي ؟

كان أبي يشعر بما أشعر به ، وكلامي له يزيد عذابه ، كنت أعلم أنه يكتم آهاته وأوجاعه عني ، إنه لا يريد أن يتحدث ، يريد أن ينام ، لعله كان يتمني النوم للأبد ليلحق بها ، وربما يخشى ذلك حتى لا يتركني وحدي ، فلبيت نداءه ، ونمت بجانبه ، ولكني في الحقيقة لم أنم ، بقيت طوال الليل أفكر وصوت أبي يرن في أعماقي ، إنها الحياة إنه القدر ، وقتها شعرت بالذل والعجز ينسابا إلي قلبي الصغير ، وإرتسمت المسكنة على وجهي وإنطفأ الأمل بداخلي ، وأصابتني الحسرة .

فبكيت ماشئت أن أبكي ، ونظرت لأبي وجدت دموعه تتسرب من جفونه على الوسادة في صمت ، فزاد عذابي وألمي ، وضاقت بي الحياة الكبيرة ، وضقت ذرعاً بنفسي .

ومع مرور الأيام بدأت أعود لنفسي ، ولدراستي ، ولكني عدت إنسانة أخرى حزينة عبوسة ، تفوح رائحة المرارة من نبرات صوتي ، وترى الآسى عميقاً في وجهي ، والحزن واضحاً في عيني ، فقد افتقدت الحب وافتقدت نفسى ، ولمست خشونة الحياة منذ الساعة بعد أن فقدت الصدر الذى كان فيه لين الحياة لأن فيه روح أمي ، وصارت حياتي متقشفة ، فقررت أن أهبها لأبي .

أبي هذا الملك القائم الذي طالما كان يحنو على سريري إذا استلقيت لاستقبل الليل في هدوء ونوم لذيذ ، ويشد علىّ الغطاء ويقبل جبهتي ، ثم يحنو على سريري إذا أصبحت لاستقبل النهار في سرور وإبتهاج ، ألست مُدينة لهذا الملك بما أنا فيه الآن ؟ نعم مُدينة له بالكثير ، وسأبقى بجانبه فيما يتبقى من عمره ، أعلم أنه سيذهب كما ذهبت أمي ، أو أنني سأذهب أولاً من يعلم .

ولكني كنت آرى في عيونه دائماً حزن مرير ، وأسئلة كثيرة تقلقني ، حتى أمسك بيدي وأنا أقدم له الدواء وقال لي :

ــ مازال الحزن يسيطر عليكِ ياابنتي ، وأنتِ أمامك الحياة واسعة ، لا تيأسِ من رحمة الله ولا تجزعي .

فجلست بجواره وقلبي يخفق وقلت :

ــ لا يا أبي ، فأنا الآن أفضل مما كنت ، فأنا الآن راضية عن قضاء الله ، فقد تعلمت درس قاسى من هذه الحياة ، تعلمت ياأبي أنه ينبغي على الإنسان عندما يحب شخص عليه ألا يغفل عن سنة الحياة وارادة الله ، وبألا يحب هذا الإنسان حب لا يستطيع بفراقه استكمال مسيرة الحياة .

فقال بعد أن ترقرق الدمع في عينيه :

ــ نعم ياعزيزتي .

ــ تعلمت أن الناس في حياتنا ليست حق أو عقد احتكار ، وإنما حق إنتفاع ، فعندما تحب شخص اعلم أنه ذاهب أو أنك ذاهب ، فإن ذهب فهذه ليست نهاية الحياة ، لأن الحياة لا تتوقف عند فقدان شئ أو فراق شخص .

فقال أبي في جزع وهو يضمني لأحضانه ويبكى :

ــ عاشر من تعاشر فلابد من فراق .

ــ نعم يا أبي ، فالحياة هكذا ، شروق وغروب ، ربيع وخريف .

يوليو 2009

تقريبا يا الاء انتى كنتى داخة بالقصة الرائعة دى المسابقة
بس مكنش فيه نصيب بس على فكرة اعجبتنى كتير وانا واحد من الناس الى ادوكى صوتهم
قصة جميلة يا الاء تحدثتى فيها عن عن حاجات كتير بين الربيع والخريف
اتمنى انا اشوف ابداعتك اكتر واكتر
دمتى مبدعة
تيمو

تسلم ياتيمو ياشاعرنا الجميل .

هكذا أنت الذوق والإبداع ،

تقبل خالص تحياتي .

وأمنياتي لك بمزيد من الإبداع والرقىُ .

جميل ما خطت يداك عزيزتي آلاء واللهم لا اعتراض على أمر الله فكلنا مفارق ...
دمتي جميلة

الأستاذ أبو النور.

سعدت بمرورك وردك الجميل هنا على قصتي المتواضعة .

خالص تحياتي .